النوع الرابع : جمع القرآن وترتيبه2
جـ- رسم المصحف العثماني والآراء فيه.
المراد برسم القرآن هنا كيفية كتابة الحروف والكلمات في المصحف على الطريقة التي كتبت عليها في المصاحف التي أمر عثمان اللجنة الرباعية فكتبتها ووزعتها في الأمصار.
ويطلق عليه: رسم المصحف، ومرسوم الخط.
الآراء فيه:
الرأي الأول: أن الرسم العثماني ليس توقيفاً عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولكنه اصطلاح ارتضاه عثمان وتلقته الأمة بالقبول، فيجب التزامه والأخذ به، ولا يجوز مخالفته.
الرأي الثاني: أن رسم المصحف اصطلاحي لا توفيقي، وعليه فيجوز مخالفته.
الرأي الثالث: أنه توقيفي لا يجوز مخالفته، وهو مذهب الجمهور.
واستدلوا بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان له كُتاب يكتبون الوحي، وقد كتبوا القرآن كله بهذا الرسم، وقد أقرهم الرسول صلى الله عليه وسلم على كتابتهم وقضى عهده صلى الله عليه وسلم والقرآن على هذه الكتبة لم يحدث فيه تغيير ولا تبديل.
أقوال الفقهاء في الرسم العثماني: جمهور العلماء ذهبوا إلى منع كتابة المصحف بما استحدث الناس من قواعد الإملاء، للمحافظة على نقل المصحف بالكتابة على الرسم نفسه الذي كتبه الصحابة.
- وقد صرح الإمام أحمد فيه بالتحريم فقال: تحرم مخالفة خط مصحف عثمان في ياء أو واو أو ألف أو غير ذلك.
- وسئل الإمام مالك: هل تكتب المصحف على ما أخذته الناس من الهجاء؟ فقال: لا، إلا على الكتبة الأولى.
- وجاء في الفقه الشافعي: إن رسم المصحف سنة متبعة.
- وجاء في الفقه الحنفي: أنه ينبغي ألا يكتب بغير الرسم العثماني.
-وقال الإمام أبو عمرو الداني : ولا مخالف له من علماء الأمة.
وهكذا اتخذت الأمة الإسلامية الرسم العثماني سنة متبعة إلى عصرنا هذا، كما قال البيهقي في "شعب الإيمان": واتباع حروف المصاحف عندنا كالسنن القائمة التي لا يجوز لأحد أن يتعداها.
وكان ذلك للمبالغة في المحافظة والاحتياط على نص القرآن، حتى في مسألة شكلية، هي كيفية رسمه.
لكن استثنوا من ذلك نقط المصاحف وتشكيلها، لتتميز الحروف والحركات، فأجازوا ذلك بعد اختلاف في الصدر الأول عليه، وذلك لما اضطروا إلى ذلك لتلافي الأخطاء التي شاعت بسبب اختلاط العرب بالعجم.
د- تحسين الرسم العثماني
1-كانت المصاحف العثمانية خالية من النقط والشكل اعتماداً على السليقة العربية التي لا تحتاج إلى مثل هذه النقط والتشكيلات، وظلت هكذا حتى دخلت العجمة بكثرة الاختلاط، وتطرق اللحن إلى اللسان العربي، عندئذ أحسَّ أولو الأمر بضرورة تحسين كتابة المصاحف بالتنقيط والشكل والحركات مما يساعد على القراءة الصحيحة.
2- من شكل المصحف:
أ- اختلف العلماء في ذلك، منهم من قال: أبو الأسود الدؤلي الذي ينسب إليه وضع ضوابط اللغة العربية بأمر من سيدنا علي بن أبي طالب. يروي أنه سمع قارئاً يجر اللام من رسوله في قوله تعالى: {أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ} [التوبة: 3]، فغير المعنى، ففزع لهذا اللحن وقال: عز الله وجل أن يبرأ من رسوله، فعندئذ قام بوضع ضوابط التشكيل حفاظاً عليه من اللحن.
ب- ومن العلماء من قال: أول من شكل المصحف : الحسن البصري، ويحيى بن يعمر، ونصر بن عاصم الليثي بأمر من الحجاج.
3- تدرج تحسين رسم المصحف: كان الشكل في الصدر الأول نقطاً، فالفتحة نقطة على أول الحرف، والضمة نقطة على آخره، والكسرة نقطة تحت أول الحرف، ثم تدرج، فأصبحت الفتحة شكلة مستطيلة فوق الحرف، والكسرة تحته، والضمة واواً صغيرة فوقه، ثم بعد ذلك مر المصحف في طور التجديد والتحسين على مر العصور حتى استقر على هذا الشكل الذي هو عليه الآن من الخطوط الجميلة الواضحة، وابتكار العلامات المميزة، والاصطلاحات المفيدة، فجزى الله من سبقونا في خدمة قرآن ربنا خير جزاء.
هـ- ترتيب آيات القرآن وسوره
1- تعريف الآية:
لغة: أصلها بمعنى العلامة، ومنه قوله تعالى: {إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمْ التَّابُوتُ} [البقرة: 248].
اصطلاحاً: فهي قرآن مركب من جمل ولو تقديراً، ذو مبدأ و مقطع، مندرج من سورة.
2- تعريف السورة:
لغة: من سور المدينة، أو من السورة بمعنى المرتبة والمنزلة الرفيعة.
اصطلاحاً: قرآن يشمل على آيٍ ذوات فاتحة وخاتمة . وأقلها ثلاث آيات.
3- حكمة تقسيم القرآن إلى سور وآيات
منها: أن القارىء إذا ختم سورة أو جزأً من الكتاب ثم أخذ في آخر كان أنشط له، وأبعث على التحصيل منه لو استمر على الكتاب بطوله.
ومنها: أن الحافظ إذا حَذَق السورة اعتقد أنه أخذ من كتاب الله طائفة مستقلة، فيعظم عنده ما حفظه، ومنه حديث أنس: كان الرجل إذا قرأ البقرة وآل عمران جلّ فينا.
4-مصدر ترتيب القرآن الكريم.
أجمع العلماء سلفاً فخلفاً على أن ترتيب الآيات في السورة توقيفي، أي اتبع فيه الصحابة أمر النبي صلى الله عليه وسلم، وتلقاه النبي صلى الله عليه وسلم عن جبريل، لا يشتبه في ذلك أحد.
والأحاديث في إثبات التوقيف في ترتيب الآيات في السور كثيرة جداً تفوق حد التواتر، إلا أننا سنذكر أمثلة منها:
أخرج البخاري عن عبد الله بن الزبير قال: قلت لعثمان: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا} [البقرة:234] قد نسختها الآية الأخرى، فلم تكتبها أو تدعها؟ قال: يا أبن أخي لا أغيرّ شيئاً منه من مكانه.
وأخرج الإمام أحمد عن عثمان بن أبي العاص قال: كنت جالساً عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ شَخَص ببصره ثم صوَّبه، ثم قال: " أتاني جبريل فأمرني أن أضع هذه الآية في هذا الموضع {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى...} [النحل: 90]إلى آخرها.
5- ترتيب سور القرآن:
جماهير العلماء على أن ترتيب سورة القرآن توقيفي، وليس باجتهاد من الصحابة.
والأدلة على أن ترتيب السور كلها توقيفي كثيرة جداً نذكر منها: عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: في بني إسرائيل، والكهف، ومريم، وطه، والأنبياء، إنهن من العتآق الأول، وهن من تلادي.
فذكر ابن مسعود السور نَسَقاً كما استقر ترتيبها.
وقوله صلى الله عليه وسلم: " أعطيت مكان التوراة السبع الطوال، وأعطيت مكان الزبور المئين، وأعطيت مكان الإنجيل المثاني، وفضلت بالمفصل.
قال أبو جعفر النحاس: وهذا الحديث يدل على أن تأليف القرآن مأخوذ عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه مؤلف من ذلك الوقت، وإنما جمع في المصحف على شيء واحد.
ويشهد لذلك من حيث الدراية والعقل واقع الترتيب وطريقته، وذلك من وجهين لا يشك الناظر فيهما، أن الترتيب بين السور توقيفي:
الأول: مما يدل على أنه توقيفي كون الحواميم رتبت ولاءَ، وكذا الطواسين، ولم ترتب المسبحات ولاءً، وأخرت طس عن القصص.
الثاني: ما راعاه العلماء الأئمة في بحوثهم من التزام بيان أوجه التناسب بين كل سورة وما قبلها، وبيان وجه ترتيبها.